فلنعترف أولاً، إنّ المسيحيين ليسوا في أفضل حالاتهم وأيامهم. ليس على هذه الصورة أرادوا لبنان، ولا هكذا تصوّروا مستقبله ومستقبلهم بعد عقود الحرب الطويلة التي انتهت بصيغة غالب ومغلوب جرّاء ما يسمّى اتفاق الطائف.
كلّ منهم، ومن منطلقه وأسبابه، ينظر إلى ما تسمّى "الجمهورية الثانية" وكأنها أبعد ما تكون جمهوريته، بمعنى أن تُحقق له مطامحه وخصوصياته وأحلامه فترى المسيحيين يعيشون نوعاً من القلق ونوعاً من الإحباط ونوعاً من التخاذل، فالدولة ما عادوا يعتبرونها دولتهم، والوطن ما عادوا يرونه وطنهم، حتى الضمانة التي شَبّع زعماء الـ 43 رؤوس المسيحيين بها متمثّلةً بالرئاسة الأولى والجيش ما عادوا للأسف يرون فيها الضمانة الحقّ، فالرئيس الأول لم يستطع أن يتحوّل الزعيم الأول، والجيش يرونه يتعرّض لحملات التجريح والتشهير والإتهام من طبقة سياسية لم تجرؤ على رفع حصانة عن نائب يشهّر بالجيش ويتسلّح ليل نهار بالخطاب المذهبي.
قد يكون أكثر ما ينقص المسيحيين اليوم هو أن يُشار اليهم على انهم مسيحيون لبنانيون فحسب، لا مسيحيّو فلان او علتان، او تصنيفهم ألف مذهب وصنف ولون، أكثر ما ينقصهم اليوم أن يكونوا مسيحيين تجمعهم الهوية والانتماء والطرح والهدف.
اما الشركاء الآخرون في الوطن فليسوا في أحسن حال، فالسنّة، الذين أعطتهم صيغة الطائف، لم يتعلمّوا من تجارب الذين سبقوهم في السلطة قبل انتهاء مفعول صيغة 43.
في البدء، كانت القيادة السياسية في لبنان للسنّة، وذلك استمراراً لِما كان قبل إعلان لبنان الكبير، حيث كانت الدولة العثمانية دولة سنية. ولقد عارضت الطائفة السنية بأغلبيتها الساحقة الانتداب الفرنسي ومعه عارضت الكيان الجديد، وهي التي عقدت المؤتمرات في دمشق وبيروت وسواها طلباً للانفصال عن لبنان، مُطالبةً بالاتحاد مع سوريا، وهي نفسها التي قبلت بقيامة هذا الكيان واستقلاله التام عند وضع الميثاق الوطني معبّرة عن رأي كلّ المسلمين في لبنان.
وكان قرار الأمم المتحدة بإنشاء الكيان الإسرائيلي وبروز ظاهرة جمال عبد الناصر مع تصاعد المشروع القومي العربي ومن ثم الوحدة المصرية السورية، فأعادت الى الطائفة السنّية والى جمهور أكبر منها حنينَ أفكار ما قبل الاستقلال والميثاق، فانقسمت البلاد من جديد بين مؤيّد لصيغة 1943 ومعارض لها.
حصلت هزيمة العام 1967 فجعلت لبنان مصبّاً لكلّ الدفق الفلسطيني. غير أنّ هشاشة التركيبة الطائفية اللبنانية، جعلت العنصر الفلسطيني قوّة مرجّحة في الحرب الداخلية لمصلحة الطوائف الاسلامية، وخصوصاً الطائفة السنية، وصولاً الى الطائف الذي أنهى حرباً دامت 15 عاماً، الى أن بدأ خطاب التطرّف عند المسلمين السنّة وسلوكهم منذ لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري حتى اليوم.
اما الشيعة الذين أخذ دورهم بالأفول مع إعلان دولة لبنان الكبير، فقد تشاركوا في دولة الاستقلال من خلال موقع رئاسة المجلس النيابي، ومن ثم انخرط شبابهم في الحرب اللبنانية 1975 - 1990 تاريخ انتهائها وإقرار الطائف، وما عكسته هاتان المحطتان من تغيرات في موقع الطائفة في النظام السياسي اللبناني، وقد كان لشباب الطائفة الدور الأكبر في تسليف الكثير من المنظمات الفلسطينية والعروبية والتقدمية والعلمانية، وحتى اليمينية.
وقد برز دور الامام السيّد موسى الصدر في توحيد الطائفة وتحشيدها، وشكّلت الثورة الاسلامية في ايران حاضنة لدور شيعي جديد في المنطقة، وخصوصاً في لبنان، في ظلّ انكفاء الدولة عن حماية الجنوب في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية.
وقد اعتمدت الطائفة الشيعية على فائض القوّة لديها لتثبيت حضورها على الساحة اللبنانية، خصوصاً ان اتفاق الطائف لم يعطها بقدر الدور الذي مارسته خلال الحرب اللبنانية بعد أن حرمتها صيغة 43 ذلك. فاستطاعت الطائفة ان تحفظ لها مكاناً بعدما باتت تملك عمقاً سورياً وإيرانياً إنطلق من تقاطع مصالح سياسية وجغرافية بسبب التلاصق مع الكيان الإسرائيلي.
اما طائفة الموحدين الدروز، وهي الطائفة الكيانية، فتعاني اليوم صراعاً وجودياً يرتبط ارتباطاً عضوياً مع موجات الزلازل التي تجتاح المنطقة. وهي، وإن كانت تعوّض عن حجمها بديناميتها، إلّا أن هذه الخصوصية قد تبقى آنية ومحصورة في مكان وزمان.
إنتهت الحرب اللبنانية بخيبة أمل للدروز، هم الذين احتضنوا كلّ مشاريع تغيير النظام السياسي وكلّ ثوّار المنطقة من عبد الناصر إلى ياسر عرفات، فتكرّست الامتيازات الطائفية لبعض الطوائف، ولَو على الورق، مُستثنيةً الموحدين الدروز إلّا من "شيك بلا رصيد" اسمه مجلس الشيوخ.
وعليه، يمكن القول إنّ غالبية المجموعات اللبنانية لها امتداد ديني أو مذهبي أو عقائدي مع الخارج. وبالتالي، راح بعضها يلعب لعبة هذا الخارج لكَسر التوازنات في الداخل، مراهناً على الغلبة في الحريق الإقليمي لتصفية الحسابات.
إن الطائفية التي اعتبرها اللبنانيون حالة مؤقتة في ميثاق الـ43، تحوّلت مع اتفاق الطائف إلى حالات مذهبية دائمة، فبدلَ أن يؤسسوا دولة عصرية رائدة تساوي بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، رجعوا إلى عصور الجاهلية والتمزّق والفرقة والتعابير الغابرة والسلوك النافر.
إن التلطّي خلف الشعارات والعواطف الكاذبة لا يخفي هذا الشعور العام بالغبن لدى اللبنانيين، وإن كانوا مُتخمين بالسلطة والنفوذ، وهم يتحيّنون الفرصة لينقضّوا على ما يسمونها مغانم السلطة عند المكوّنات الأخرى.
لقد مرّ على لبنان المصريون والفينيقيون والأشوريون والبابليون والفرس والإغريق والرومان والبيزنطيون والأمويون والعباسيون والصليبيون والمماليك والعثمانيون والفرنسيون. ومرّت عليه أزمات كثيرة: حرب 48، أزمة 58، حرب 67، أزمة 69، حرب 73، حرب 75، حرب 82، إجتياح 13 ت1، تصفية الحساب 1993، عناقيد الغضب 1996، حرب تموز 2006.
وعقدت الكثير من المؤتمرات والمصالحات والاتفاقات، من اتفاقية القاهرة إلى قمّة عرمون، والوثيقة الدستورية ومقررات القمم العربية واتفاق 17 أيار ومؤتمرات جنيف ولوزان والإتفاق الثلاثي والطائف وسان كلو والدوحة، ما عدا السهو وليس الغلط.
أنطلق من ذلك كله للقول إن هواجس الفئات اللبنانية لا تحلّ بمؤتمرات فئوية وتوصيات إعلامية، ولا بحراك سياسي لتعبئة فراغ ما. فالصراعات اللبنانية، وإن كانت نقودها ووقودها خارجية، الّا أن جوهرها وأدواتها داخلية بامتياز.
وبالتالي، فإن الشجاعة تقضي من اللبنانيين، وقبل فوات الأوان، البحث عن صيغة جديدة أكثر واقعية من اتفاق الطائف لإنقاذ ما تبقّى من مظهر الدولة اللبنانية الموحّد. وبتسوية، إمّا أن تأخذ بعدالة من الجميع لتعطي الدولة، وإما أن تأخذ ما تبقّى من الدولة لتعطي الجميع.قد يصِل الإنسان إلى الحكم، لكن ليس بالضرورة أن يصِل إلى الحكمة.
حَمى الله لبنان... وما تبقى من حكماء فيه.